فضفضة ابن عاق

لا أعرف كيف كنت أفكر ، لكني بالتأكيد لم أكن في كامل وعيي...

أشعر أني اختنق، لست قادر على تحمل المزيد من الألم، أشعر أن الندم يعتصر قلبي، وكأن قدمي وساعدي مبتوران، كأنني عاجز عن الحركة أو السير، أو فعل أي شيء، لا شيء سوى التحديق في هذا السقف، وانا مستلق على ظهري عاجز عن التنفس،


رجل يبكي نادما، رجل يخبأ وجهه بين يديه، ويبكي ندما


أغوص في أعماق جحفي، صارخا، كيف إني لم أكن قادرا على الإحساس بها، كيف أني آلمتها كل ذلك الألم، كيف فعلت بها ذلك، وبلا سبب، لازلت أذكر عينيها الدامعتين، وأنا أصرخ عليها لتكف عن سكب المزيد من الطعام في طبقي، وأن تكف عن تدليلي، وأن لا تحاول أبدا ومطلقا أن تتقرب مني ولا بأي شكل من الأشكال، لأنني في واقع الأمر كنت قد اخترت، وقررت، وأخفيت نواياي الخبيثة، وأعتقدت بأني سأنجو بفعلتي،

لازلت أذكر توسلاتها لي، ليس خوفا مني وإنما خوفا علي، كانت تسقط عند قدمي باكية، وكان نحيبها يشق عنان السماء، في كل مرة أقول فيها لها، ( إنها حياتي وأنا حر بها )، كان الغرور قد بلغ بي مبلغه، فتركتها وحيدة، وعزلتها عن التواصل معي بكل الطرق، ولست أذكر ما هي الأسباب، لست أذكر، لست أذكر سوى أني كنت قد قررت أن أكون بخيلا عليها، ولم أشأ أن أشاركها شيئا من راتبي، بعد أن حصلت على وظيفة، وهي التي تكفلت بي وبمصروفي طوال سنوات حياتي، منذ ان جاءت بي إلى هذه الدنيا، وهي التي تصرف علي، فقد ولدت يتيما، لذلك فقد دللتني بكل ما لهذه الكلمة من معنى، وبكل ما أوتيت من شباب وقوة، حيث كان دخلها عاليا، وكانت كريمة معي، فأدخلتني أرقى المدارس، والبستني الماركات العالمية، وخصصت لي مصروفا كبيرا، كان يكفي لأحيي به حفلة لأصدقائي كل يوم، فهل كان خطأها أنها دللتني؟

لكنها فجأة، وبعد أن تقدمت في العمر، سقطت مريضة عاجزة عن العمل أو العطاء، وعاجزة بالتالي عن مساعدتي ماديا، وأنا الذي خذلتها في كل جامعة دخلتها، حيث كنت أرسب بسبب استهتاري، وبالتالي كان علي أن أجد وظيفة لنفسي، ولأني اعتدت على أن أصرف الكثير، لم يكن ممكنا بالنسبة لي أن اشارك راتبي الذي كنت أجده بسيطا، رغم أنه بالنسبة لغيري جيد، لم يكن بإمكاني أن اشاركه معها، فهو بالكاد يكفي لدعوة أصدقائي على الغداء والعشاء، وللتظاهر أمامهم أني لازلت ثريا كما كنت دائما.

الغريب أنها لم تطلب مني يوما، أية أموال، بل على العكس، كانت تسألني باستمرار إن كنت في حاجة إلى المال، رغم أني أعرف أنها لا تملك منه شيء، فكنت كلما زرت مطبخها، أجد ثلاجتها لا تحتوي على شيء سوى الماء، لقد كنت أراقبها وهي تبيع ممتلكاتها بالتدريج، لتصرف على علاجها، حتى حينما تراجعت صحتها كثيرا، رفضت زيارتها خوفا من أن تطلب مني المال لاستكمال علاجها، لكني في النهاية حضرت جنازتها، وبعد وفاتها مباشرة مضيت أبحث إن كانت قد تركت أي شيء لي، وقد استطعت أن أبيع ما تبقى، وكانت ثروة صغيرة مقارنة بما كانت تملك قبل مرضها، هذا كل ما كان يهمني حتى ذلك الحين، فأنا لم أشعر أبدا بها، ولا بألمها، إلا بعد أن تزوجت، ورزقني الله بأبنه.

فهمت وقتها فقط، ماذا يعني أن تعمل ليل نهار لتدلل طفلا، طفلا لا ترجو منه سوى أن تراه سعيدا.

اصبت منذ عامين باكتئاب شديد، لأني عاجز عن تعويض أمي ما عانته مني وبسببي، فقد ماتت وفي قلبها حسرات، وقهر شديد، وأشك أني من قتلتها، وجعلت مناعتها ضعيفة في مواجهة المرض بإجحافي لها،

في الكثير من الأحيان أشك في أني كنت واعيا، أشك في قدراتي العقلية آن ذك، لم كنت أنانيا إلى هذه الدرجة؟ لم كنت جاحدا؟

طبيبي النفسي يقول بأن تربيتها وتدليليها لي كان جزء من السبب؟ لكن هذا لم يكن مبررا، لم يكن عقلانيا؟ إنه يقول ذلك ليخفف علي وطأة الندم. أين كان قلبي، عقلي، فؤادي؟ كيف استطعت أن أفعل بها ما فعلت؟

حاولت الإنتحار كثيرا، لأني أشعر أني لا أستحق السعادة، لكني أتراجع، حينما أفكر في ابنتي، وأتساءل، يا ترى كم مرة فكرت أمي في الإنتحار وتراجعت لأجلي، فبعد وفاة أبي لم تتزوج، وبدت كئيبة، هددها عمي بأنه سيأخذني منها إن هي تزوجت، لقد ضحت من أجلي، لقد كنت محور حياتها.

كلما رأيت ابنتي تلعب، وكلما سمعت ضحكاتها، أفكر كيف ستكون أمي سعيدة بها، لو كانت بيننا، لا شيء في هذه الدنيا قادر على علاج هذا الألم، صدقوني حاولت كل شيء، حاولت أن أبتر ساقي أو ساعدي، حاولت إيذاء نفسي لأنتقم مني لأمي، لكن كل هذا لم يجدي نفعا، إني مسخ في صورة إنسان،

مشتاق لها كثيرا، كثيرا، كثيرا، وادعو الله ليل نهار أن يسرع بي إلى يوم موتي، لكي ألقاها، وابكي عند قدميها، واضمها إلى صدري، وأعوض قلبها المكلوم.

اتصل بخالتي، في اوقات غريبة، أتصل بها في منتصف الليل حينما أعجز عن النوم، أبكي وأنتحب، أصبحت معتادة على اتصالي، فهي الوحيدة التي تعرفها جيدة، ولأنها تشبهها، ولأنها الأقرب إليها، أصبحت أزور خالتي باستمرار، أبحث عن وجه أمي في وجهها، وأحب أن اسمع منها في كل مرة عبارة:

" يا أبني يا حبيبي، أمك كانت تقول قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، اخبروه أني أسامحه دنيا وآخرة "

بقدر ما تريحني هذه العبارة، بقدر ما تشطرني نصفين، يال قلوب الأمهات، ويال إجحاف الأبناء.

أتصدق عن روح أمي باستمرار، وأدعو الله أن يغفر لي ويسامحني، مؤخرا وبعد علاج استمر عام ونصف بدأت أتحسن قليلا، لكن لازالت هذه اللحظات المرة، تباغتني، فقررت أن أفضفض، كلما باغتني الحنين، والندم والحسرة، لعل كلماتي تصل لقلب كل عاق فيفيق من غفلته، ويرق قلبه لوالديه.


  

   

المصدر:

https://www.a7mmr.com/node/3957





حساباتنا على مواقع التواصل الإجتماعي





ودمتي بخير

أحدث أقدم

نموذج الاتصال